رسالة الحبيب بورقيبة
27 أفريل 1965
إلى الرئيس جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة.
أما بعد فإن واجب العروبة يملي علي أن أخاطبكم في قضية عزيزة علينا جميعا، كثيرا ما تبادلنا الرأي في شأنها، وكان يخيل إلي أنا متفقان بخصوص النقط الجوهرية منها.
وان ما توطد بيننا من روابط الأخوة والتفاهم أثناء مقابلاتنا العديدة وبخاصة خلال زيارتي الأخيرة إلى الجمهورية العربية المتحدة لييجعلني أعتقد أن الخلافات مهما تكن يمكن التغلب عليها بالمنطق السليم والنية الطاهرة والعزيمة الصادقة.
وان ما لقيته من شعب مصر ومن شعوب المشرق العربي عامة من إكرام وتبجيل لمرتسم في نفسي ولن يمحى أثره مهما تقلبت الأحوال وان ذلك يضاف إلى واجبي كعربي فيملي علي ان أفعل كل ما في وسعي لاجنب الشعوب العربية مغبة الانقسام والتناحر في ظرف هم فيه أحوج ما يكونون إلى التكاتف والتضامن من أجل العمل الإيجابي.
ولقد زرت اللاجئين في المملكة الأردنية، ووقفت بنفسي على ملا يقاسونه من حرمان وخصاصة ومس بالكرامة –والعيان أقوى من ألف رواية-، وكان في مقدوري أن أقول لهم ما تعودوه من كلام معسول يثير حميتهم ويكسبني إعجابهم وتأييدهم. ولكني شعرت بأن الواجب الذي لا يمكننا الإخلال به أو التفصي منه إنما هو مصارحتهم بما يعيد إليهم الشعور بأن مصيرهم بأيديهم وأنهم مسؤولون عن صنع هذا المصير بما يقيمونه من خطط ويرسمونه من أهداف وما يأتونه من أعمال، بدل التجمد في موقف المطالبة العاطفية التي تتغذي بالآمال ولا تسفر عن فعل.
ولم أستغرب ما ذهبت إليه بعض الصحف في بعض الأقطار العربية من استنكار وثلب، بقدر ما استغربت ما بدر من بعض الأوساط المسؤولة في القاهرة بخصوص الموقف الذي وقفته والتصريحات التي فهت بها، والحال أننا متفقان في الجوهر كما تبين لي ذلك من خلال محادثاتنا الكثيرة عن قضية فلسطين.
أنتم أعلم الناس بأن المشكل لا يتعلق بالهدف الذي لا يمكن أن يتطرف إليه خلاف أو نزاع والذي هو تمكين اخواننا الفلسطينيين من استرجاع وطنهم المغصوب. وإنما الذي اشكل فهمه على بعض الأوساط أو أسئ فهمه عمدا في بعض الدوائر إنما يتعلق بكيفية الوصول إلى ذلك الهدف، فخلطوا عمدا أو غفلة بين الغايية والوسيلة وحملوا الاجتهاد في استنباط الوسائل محمل التخلي عن الهدف أو التنكر له.
ولئن كان ما قلته يغاير ما ألفه الكثيرون من جعجعة لفظيية لا طائل من ورائها، فإن المسؤولين العرب عامة والمسؤولين المصريين بوجه أخص على علم من حقائق الأمور. واعتقادي أن الشخصيات الرسمية التي تسرعت إلى إبداء الاستنكار إنما فعلت ذلك بغية مرضاة حكومة الجمهورية العربية المتحدة وذلك لأسباب داخلية لا تعزب عن أحد.
لذا اعتبر من المفيد أن اخاطبكم أنتم مباشرة، وسأتوخى نفس الصراحة التي عهدتموها سواء في مبحثاتنا الخاصة أو في الخطب التي صدعت بها على رؤس الملأ في شتى المناسبات.
ونحن جميعا متفقون على أنه من المستحيل في الظروف الراهنة أن تشن الدول العربية حربا على إسرائيل لتحرير فلسطين وإرجاعها إلى أهلها وأصحابها، وأذكركم في هذا الصصدد بمداولات اجتماعي القاهرة والإسكندرية، ولست أعتقد أن في تأكيد ذلك إفشاء لسر ما.
ويتعذر على الدول العربية القيام بأي عملية هجومية في الوقت الحاضر لسببين : اولهما أنها غير متأهبة لمواجهة الحرب ولا قابلة لمبدأ تسلل عصابات المقاومين من أبناء فلسطين، والثاني أن الوضع الدولي يحول أيضا دون ذلك لاجماع الشقين الغربي والشرقي في الأمم المتحدة على المحافظة على السلم واستعدادهما لردع أي محاولة تهدف إلى تغيير الوضع الحالي بالعنف في هذه المنطقة.
وليس هناك في الوقت الحاضر ما يحمل على الأمل بأن الحالة سوف تتغير في أمد معقول يمكن التكهن به، بينما تزداد تكاليف التسلح وطأة على الدول العربية فتحد من قدرتها على النمو واكتساب الأسباب الحقيقية للقوة والمناعة.
وكثيرا ما تناولت هذا الموضوع مع عدد من المسؤولين في المشرق العربي، فكانوا دوما يجيبون بأن أكبر حسرة في نفوسهم غصرار العرب على التمسك بمواقف سلبية تجاه الحلول التي عرضتها عليهم منظمة الأمم المتحدة.
ولقد قلتم لي بلسانكم خلال محادثة لنا عن ذلك أنكم اثرتم موجة نمن الغضب لما صرحتم اثناء مؤتمر باندونغ بأن ما عرضته الأمم المتحدة سنة 1948 يمكن اعتباره حلا مرضيان فأجبتكم بأني مستعد لاتخاذ مواقف جريئة في هذا الصدد وأضفت مازحا : وآمل أن لا تهاجمني عندئذ ابواق إذاعة القاهرة وصوت العرب.
وان الخطة التي اقترحتها في أريحا والقدس ولبنان، ثم شرحتها ووضحتها في تصريحات موالية، لا تختلف في الجوهر عن الموقف الذي أعلنتم عنه سنة 1955، وقد تقدمت بهذه الخطة نفسها في الخطاب الذي ألقيته في الاجتماع الأول لرؤساء الدول العربية بالقاهرة في جانفي 1964.
وهي خطة لا تهدف إلى الاستكانة وقبول أنصاف الحلول كما يظن البعض، بل هي تهدف إلى تحريك القضية بعد أن تجمدت وتعفنت وكاد الرأي العام العالمي ان ينساها واجمع أصدقاؤنا من العالم الثالث من الدول الغير المنحازة على اعتبارها من القضايا المحفوظة.
فمن اوكد واجباتنا انتشال القضية من هذا التدهور الذي وصلت إليه، وذلك بإرجاعها إلى الحيز الذي تصبح فيه من شواغل الرأي العام العالمي.
ومن اوكد واجباتنا أيضا ان نقرأ للخطة السياسية حسابها فلا نعول على القوة وحدها لأنها كما أسلفنا لا تفضي إلى نتيجة إيجابية، فلا بد إذن من كسب الأنصار وتهيئة الرأي العام الدولي إلى مساندتنا بصورة من الصور، لذلك اقترحت أن نعود إلى قبول مقررات الأمم المتحدة في شأن إرجاع اللاجئين إلى ديارهم وتخلي إسرائيل عن جانب هام من فلسطين المحتلة.
وكنت أتوقع –والأيان أقامت الدليل على ذلك- أن اسرائيل لن تقبل الخضوع لمقررات الأمم المتحدة وأنها بذلك، ومن حيث لا تريد، سوف تعزز موقفنا، غذ تظهر الدول العربية في نضالها من اجل فلسطين في موقف المدافع عن قرارات الأمم المتحدة المتعلق بمبادئها.
وكنت واثقا –والحداث أيدت ذلك- أن الدول الكبرى ستستنكر رفض اسرائيل الانصياع لمقررات الأمم المتحدة فيكسب العرب من ذلك بصورة غير مباشرة، وتتزعزع الأركان التي يعتمد عليها الاستعمار الصهيوني نتيجة للتفرقة بين اسرائيل ومناصريها.
ولا يخلو الحال من أحد امرين : إما أن تقبل اسرائيل في النهاية مقررات المنظمة الدولية –وهو الأبعد- فتسمح برجوع اللاجئين وتتنازل عن قسم من الأرض المحتلة فتتغير بذلك المعطيات لصالح العرب وتظهر إمكانيات جديدة من شأنها أن تؤدي إلى الحل النهائي.
وإما –وهو الأقرب- أن تصر اسرائيل على الرفض، فيكون موقف العرب هو الأقوى حتى في صورة نشوب حرب بين الطرفين.
ومهما يكن من امر فإن المهم هو الخروج بالقضية من حالة الموات ودفعها إلى الأمام، وإذ ذاك لا بد لها من التطور السريع نحو الوضضع الذي يمكن حتما من بلوغ الحل النهائي، ما دامت قد دخلت في تيار الأحداث الحية واندفعت بقوة اندفاعها.
فالخطة التي صعدت بها تهدف إلى مضايقة اسرائيل وقلب الآية عليها وكسب عطف الرأي العام الدولي على قضيتنا.
وهي لا تختلف في جوهرها عن الموقف الذي عبرتم عنه باقتضاب في تصريحاتكم الأخيرة إلى مجلة « رياليتي » ووكالة « أوبيرا موندي » إذ قلتم ما معناه : ان العرب راضون بما طالب به الأفارقة والآسيويون سنة 1955 من رجوع إلى مقررات الأمم المتحدة في خصوص قضية فلسطين.
فأين الخلاف بيننا إذن ؟ ألسنا متفقين في صلب القضية ؟ ألسنا على رأي واحد في خصوص عدم نجاعة الحرب في الظروف الراهنة مع تأكيد تضامن تونس مع شقيقاتها في حالة نشوب حرب مع اسرائيل وذلك طبقا لما تعهدنا به في نطاق الدفاع المشترك وضمن هيئة القيادة العربية الموحدة ؟
ألسنا نرى معا ضرورة الأخذ بسياسة المراحل في استرجاع الوطن السليب ؟ وذلك على غرار ما فعلته كافة الشعوب العربية في استرجاع سايدتها، لا استثني منها شعبا واحدا، لا مشرقا ولا مغربا. واني لأتذكر أني قلت في خطابي إلى الملوك والرؤساء المجتمعين بالقاهرة أن الكفاح يقتضي أحيانا من المسؤولين أن يغامروا بسمعتهم وماضيهم، فيجابهوا غضب الجماهير في سبيل حلول جريئة لا تظهر نجاعتها للعيان إلا بعد مدة.
ولقد كرست حياتي كلها للكفاح من أجل الحرية والعدالة لا بالنسبة إلى تونس فقط بل وفي صالح الأمة العربية جمعاء. وإني مستعد للمغامرة من جديد في سبيلها رغم الحملات المستعرة والتهجمات السخيفة التي تهدف إلى تضليل الرأي العام العربي باستعمال لغة الشتم والثلب بدل التروي وإعمال العقل وإجراء الحوار النزيه.
وإني لمستعد لذلك، وإن أدى الأمر إلى القطيعة مع بعض الأشقاء الذين يعز علينا التخالف معهم، ولكن التخلي عن الحق أشق على نفوسنا وأعظم.
ولقد عرفت تونس محنة القطيعة من قبل، وواجهتها بصبر وجلد، ولم يغير ذلك من وفائها لعروبتها ولم ينل من إيمانها بنفسها ولم يزعزع ثقتها بمصيرها.
وإن كانت القضية –وهو ما نأمل – ناشئة عن مجرد سوء تفاهم لا تشويها للنوايا، فإني مستعد لعقد اجتماع معكم في التاريخ والمكان اللذين يمكن الاتفاق عليهما قصد توضيح الموقف وحماية الوحدة العربية من التصدع وتعزيزا للطاقة العربية على بناء الكرامة والحرية والمناعة.
وفقنا الله جميعا إلى ما فيه الخير والرشد.
رئيس الجمهورية التونسية
الحبيب بورقيبة
Laisser un commentaire